ردة فعل الشارع الإماراتي واحتفائه بمعاهدة السلام مع دولة إسرائيل
ردة فعل الشارع الإماراتي واحتفائه بمعاهدة السلام مع دولة إسرائيل
يبدو أن ملف توطيد العلاقات الإماراتية الإسرائيلية سيعتبر أبرز حدث في العالم العربي خلال 2020 وسيغير واقع المنطقة وواقع التكتلات، فالحدث هو الأبرز سياسياً ليس على مستوى المنطقة والعالم العربي فحسب بل على مستوى العالم، وذلك لكون الدول الكبرى طرفاً مهماً فاعلاً ومؤثراً وأصداء الحدث سوف تستوقف المراكز البحثية وخبراء السياسة وقرائها ومحلليها لفترة طويلة الأمد.
ملف كهذا ملف كبير ومعقد ويحمل ميراثاً من التعقيدات التي لا يستهان بها على كافة الأصعدة تمتد لما يزيد عن سبعين عاماً. لكن دولة الإمارات دولة معاصرة قوية لديها رؤيتها وقرارها السيادي الذي جعلها تتخذ هذه الخطوة الكبيرة، ولا شك أنها لصالح القضية الفسطينية أولاً وللعرب ثانياً ولها في مقام الأولوية الاستراتيجية في اللحظة الراهنة التي يمر بها العالم من منعطفات وتطورات.
الإعلان عن بناء علاقات إماراتية إسرائيلية طبيعية لم يكن ظرفاً أو حدثاً عابراً لا شك وأتى في ظروف غير طبيعية أيضا تحيط بالمنطقة، وهذا الإعلان في حقيقته عنوان بارز تنطوي فيه العديد من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كملف تتسع مساحته ليمتد من المحيط إلى الخليج فيلامس واقع الشعوب ويغير خارطة الحياة وله تأثيرات سياسية على المنطقة برمتها وجدوى اقتصادية كبيرة متوقعة واجتماعية أيضاً على طرفي الدولتين.
ما جاء أعلاه لاشك نوقش ومازال يناقش ويتداول في وسائل الإعلام بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، والحديث الذي تطرق إليه الجميع خارجياً في وسائل الإعلام غطى غالباً كافة مسارات الملف لكنه غفل عن موضوع جوهري يمس الشأن الداخلي في دولة الإمارات وهو كيف تعامل المجتمع الإماراتي مع هذا القرار وهل فعلاً تلقفه الشعب بقبول واسع؟ الإجابة تقول حسب قراءة ردود الفعل أن هذا الملف كشف عن حالة فريدة ترجمها المجتمع الإماراتي في غالبيته المطلقة في رد فعل يستحق القراءة الهادئة الجيدة العميقة والمحايدة.
في الإمارات هناك مرحلتان، مرحلة التأسيس ومرحلة ما بعد التأسيس، الجيل السابق عاش في ظل أوضاع عربية سياسية ومرحلة مكنت له فيها الفرص للتعليم ولرؤية الانطلاقة المباركة وكان مرتبطاً بشكل كبير بالمزاج العربي العام في القضايا التي تخص الجانب السياسي.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة ما بعد التأسيس ولنقل إنها مرحلة ما بعد التمكين فيها صعد جيل جديد مختلف تماماً عن سابقه جيل لم يعش حقبة الشعارات القومية والبعثية الرنانة التي كان يتلقفها الإنسان العربي عموماً والخليجي والإماراتي بوجه خاص بكثير من الحماسة في مرحلة من المراحل ويتأثر بها.
ومن يعرف جيداً بنية المجتمع الإماراتي في عمقه يدرك أنه مجتمع كوزموبلاتيني بهوية متفردة لديه قيمه الأصيلة التي تشكل واقعه وتشكل حضوره العروبي والإسلامي والإنساني في نفس الوقت، هذا المنطلق يقودنا إلى قراءة دور الدولة في بناء إنسانها وكيف سابقت الزمن وتنصلت من فكرة الانهزامية التي عاشتها بعض الدول العربية في الحقب الماضية وها هي اليوم دولة الإمارات تتصدر العالم العربي في كافة مؤشرات التنمية في العديد من المجالات وفي ذلك من الشواهد الكثير ومن تقارير التنافسية العالمية التي تأتي على ذكر دولة الإمارات باعتبارها دولة متقدمة وقوية وتملك رصيداً كبيراً تتحدث فيه الإحصائيات والأرقام عن تلك الإنجازات.
لتفسير ردة فعل المجتمع الإماراتي لابد أن نقرأ كيف يفكر الإماراتي وكيف استطاعت الدولة الرهان على فكرة بناء الإنسان منذ تأسيسها معرفياً وعلمياً وكيف هي اليوم تحصد نتاج رؤيتها وثمرة جهودها بعد عقود من اهتمام الدولة فكان نتيجة ذلك بناء شخصية الإماراتي بفكره وهويته الوطنية المستقلة ليعتد بمبادئه وقيمه وانتمائه ويرى في بعده العروبي أكثر إشراقاً وأصبح نموذجاً يحتذى وما المشاريع العملاقة التي يقودها إماراتيون في مجالات حساسة كالطاقة وعلوم الفضاء والتكنولوجيا المتقدمة وغير ذلك إلا مثال حي ومعبر عن تلك الرؤية.
ربما يمكننا القول أن هذا الاحتفاء الشعبي تجسيد عملي وقطاف لما زرعته الدولة من مبادئ وقيم في نفوس الشعب والتي هي قيم أصيلة متجذرة في وجدان الإماراتي كقيم التسامح والمحبة والحوار والتعايش مع الآخر حيث عملت الدولة على ترسيخها على مدار خمسين عاماً فأنتجت جيلاً متسامحاً مؤمناً بالعيش المشترك رافضاً للتطرف والكراهية والإرهاب ومتطلعاً لعيش مرحلة جديدة تختلف كلياً عن الماضي مع مراعاته في الحفاظ على مفهوم الهوية القيمية الخاصة بمكارم الأخلاق والإنتماء للعروبة والإسلام وللإنسانية.
وجاء الملف الحدث والمتمثل في بناء العلاقات الإماراتية الإسرائيلية ليكشف عن هوية الإماراتي الذي كان واضحاً في تفاعله مع هذا الحدث بحفاوة بالغة نتيجة وتقديراً لثقته المتجذرة في حكومته وقراراتها السياسية وخاصة السيادية، بطريقة جاءت لتعبر عن مفهوم الولاء الشعبي المطلق للمنهجية التي تدار بها الدولة ولسياستها الداخلية والخارجية ولعلاقاتها الدولية، وذلك رغم الهجمة الشرسة التي تعرضت لها الدولة من منظمات وجماعات الإسلام السياسي وأذرعهما الإعلامية وأعداء السلام وممن لم يستطع الخروج من عباءة الماضي ومن رهن نفسه للبكاء على الأطلال ومن اختار فكرة الخضوع للتيارات التي وراء الشاطئ، ومن تقوضه نزعة انتظار جيل آخر يكون بمثابة المخلص من التحديات وما في ذلك من أوهام.. إلا أن الإماراتي أصر على اختيار قراره ومصيره من خلال الاحتفاء بخيار ورؤية قيادته.
هذا الاحتفاء عبر أيضاً عن رغبة في كسر حالة التوجس والريبة التي كانت في السابق تجاه مصطلحات بعينها من بينها مصطلح "اسرائيل" "اليهود" بل إن غالبية المجتمع الإماراتي اختارت القطيعة مع ما كان من ميراث وصور انطباعية ومواقف مسبقة تجاههما والتي كانت غالباً مشبعة بالبشاعة والتخويف منهما خاصة من الطرف المؤدلج الذي كان يستفيد من ذلك في تغذية فكره الأصولي بفكرة الصراع الأزلي وكان يستثمر ذلك في شحذ خطاب الكراهية وشيطنة وتحويل اليهود إلى فزاعة تاريخية تشكل خطراً على الوجود العربي وتضخيمهم في المخيلة كسبب للذعر والقلق يفوق حتى حجمهم الطبيعي.
ومن ذلك الاحتفاء أيضاً نقرأ رغبة شعبية في تجسير العلاقة مع الآخر الذي هو في سياق حديثنا الشعب الإسرائيلي وأن الشعب الإماراتي بأطيافه متقبل ومستعد نفسيا وسلوكيا للتعاطي معه ضمن إطار المشترك والقيم الإنسانية التي تعلي من شأن المصالح العليا بين البلدين والهوية الإنسانية الموحدة التي تعزز السلم بين المجتمعات وتدعو إليها.
الاحتفاء عبر أيضاً عن نجاح المشاريع والبرامج التي أطلقتها الدولة في العقود الأخيرة والتي هدفت إلى الرفع من مستوى الوعي والمعرفة لدى الشعب فأصبح محصناً وقادراً على التعاطي مع القضايا الكبرى وكشف مدى ارتفاع وعي الإماراتي على المستوى السياسي وأنه شعب مدرك للتحولات التي تحيط به وبالعالم العربي.
رغم ذلك الاحتفاء هناك أصوات أخرى وإن كان عددها قليل رأت في أن هناك اندفاع ومبالغة في الاحتفاء وغالبية من تبنى ذلك الرأي ممن يشعر بالقلق من التنصل من حمولة الماضي وإرثه، خاصة من بعض المثقفين علاوة على أصوات أخرى وإن على استحياء صمتت لأنها تعيش حيرة الماضي وصدى صوته الذي يتردد بين الفينة والأخرى وهكذا هي طبيعة أي شعب يعيش تحولات كبيرة في كافة مفاصل الحياة.
والأهم في كل ذلك أن الشارع الإماراتي أدرك أن من محاسن تلك الاتفاقية أنها قوضت دور جماعات الإسلام السياسي التي كانت تراهن على بعض القضايا الكبرى كالقضية الفلسطينية التي تحولت لديهم إلى فكرة راديكالية يتبناها المتطرفون والارهابيون المتخفون، وبها يغذون وجودهم وهي الفرصة التي كانت تحقق لهم دوافع وجود كما يعتقدون ومن خلالها يخترقون المجتمعات وجدانياً وبها ومن خلالها يوجدون لأنفسهم موطئ قدم بين الجماهير مما كان يحقق لهم الفرصة لاستقطاب أتباع جدد وفي إيجاد مسوغات للإرهاب والعنف والتطرف، وهذه الاتفاقية سهلت تقويض تلك الفكرة وفي ذلك إنجاز مهم للغاية في حربنا على الارهاب.
محمد المبارك