عاجل

هابرماس وقلق النازية وعزمي بشارة

الظفرة

 

كثيرة هي الأسئلة التي طرحت عن أسباب تراجع قبول الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع يورغن هابرماس  لجائزة تقديرية كبيرة لها مصداقية عالمية بحجم جائزة الشيخ زايد للكتاب، وشهد لها بالحيادية والشفافية والمصداقية كبار المثقفين، وكثير من المنابر الإعلامية نقلت عنه الأسباب في ذلك وهي لا تعدو كونها شعارات مستهلكة من قبل مخاوفه بشأن ملف حقوق الإنسان وغير ذلك من التبريرات التي اعتدنا عليها وقليلون الذين بحثوا في الأسباب الموضوعية والحقيقية التي كانت وراء تقهقره وتراجعه الذي يسيء لتاريخه ويسيء لمدرسة فرانكفورت وفكرها النقدي في النظرية الاجتماعية التي ينتمي إليها.

يبدو أن الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس الذي ورث قلق النازية أبى إلا أن ينهي مشواره ومشروعه التنويري الطويل بتصرف غير مسؤول يوحي بانقلابه على نظرياته وأفكاره وقيمه التي كان ينادي بها على مدار ما يزيد عن نصف قرن في كل كتبه ويبدو أنه لم يستفد من أخطائه التي ارتكبها إبان انتمائه إلى النازية في مرحلة  شبابه. ولربما أيضا لعب عامل السن تأثيراً عليه حال بينه وبين متابعة ما يجري في العالم من أحداث ومنها أحداث العالم العربي والصراعات التي تفتعلها تيارات الإسلام السياسي.

لكن الأسئلة الجوهرية التي يجب أن تطرح كيف تم ذلك ولصالح من ومن الجهات المستفيدة من خطوته التي أقدم عليها وهو الذي سبق وأن أشاد بنموذج الإمارات المعتدل والمتسامح وبأبوظبي وتوجهها الثقافي، وموقفه في الحقيقة يمس المؤسسة الثقافية الألمانية ومصداقيتها قبل أن يمس الجائزة إذ أن هناك علاقة وطيدة تربط المؤسسات الثقافية الألمانية بنظيرتها الإماراتية فمعرض فرانكفورت للكتاب لديه شراكة قوية وفاعلة مع معرض أبوظبي الدولي للكتاب كما أن هابرماس محسوب على السلطة الألمانية وواحد من أهم المنظرين لها والمدافعين عنها، فكيف تم ذلك .. وفي المقابل ما هو دور دار النشر سوركامب التي أعلن من خلالها عن تراجعه عن الجائزة وما دور مجلة دير شبيجل في هذا الحدث؟ ومن هو الطرف الخفي الذي حرك أدواته لتحقيق هذا الهدف؟. هي أسئلة لابد من الإجابة عليها بمنتهى الوضوح..

تراجع يورغن هابرماس عن قبوله جائزة الشيخ زايد للكتاب، لا شك أنه حدث ليس الأول من نوعه تتعرض له الجوائز الكبيرة والعريقة كجائزة نوبل مثلا، لكن هذا الموقف المتقهقر بمثابة وصمة عار في تاريخ  فيلسوف بحجمه بل يكاد يكون سقوطا مدويا واصطداماً مع أفكاره التي كان ينادي بها، وسقوط في امتحان لا شك أنه كان صعبا واجهه وهو في أواخر مسيرته. إذ كان من المفترض أن يكون أكثر صلابة في مواجهة كل الصعوبات التي يواجهها المثقفون الكبار عادة وأن لا يخضع لأي ابتزاز أو ترهيب يتعرض له وهو العارف بطبيعة الصراعات الفكرية في الغرب وما يشوبها من عمليات معقدة، ولدرايته بعادة تبادل أدوار إدارة تلك الصراعات بين تياري اليسار واليمين وبين سلطة السياسة والمال وسلطة الإعلام واللوبيات المؤثرة في الفعل السياسي والثقافي، ودور المؤسسات الثقافية في التأثير على الحياة السياسية في تلك المجتمعات. 

يمكن القول وفي منتهى البساطة أن هابرماس والذي وصفه مواطنه هانز جورج جدامر (Gadamer) في كتابه «درس القرن» بأنه «سياسي يعمل بالفلسفة»، وجد نفسه بين خيارين لا ثالث لهما، الأول وكان في خطوته الصحيحة في قبوله المؤكد عبر خطاب رسمي موجه منه إلى الجائزة التي تحظى بمكانة لدى كبار المثقفين والمفكرين والفلاسفة، لكنه لم يدرك الكلفة التي ستكون كبيرة نظراً للعقد الذي يربطه مع دار النشر «سوركامب»(Suhrkamp) وهي الجهة المسؤولة عن نشر أعماله وكتبه وترجمتها وتوزيعها على مستوى العالم العربي، الخيار الثاني الانقلاب على موقفه والتراجع والرضوخ للوبي اليسار الذي يتحكم في المشهد الثقافي الألماني الذي يستطيع إسقاطه في حال خالف التقاليد عبر أدواته بطرق معروفة لمن هو مطلع على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الألماني بتهم معروفة من بينها تهمة النازية والتي سبق وأن اتهم بها طويلا وخاض حروباً من أجل تحسين صورته في العديد من محطات حياته وهو الذي كان يحاول دائماً إبعاد هذه الشبهة عن نفسه. 

بداية الأحداث تمت خلال الثمانية وأربعين ساعة الأخيرة وتحديداً بعد أن قام الشيخ محمد بن زايد بتهنئة يورغن هابرماس حيث تحركت الجهات الداعمة للخراب العربي والتي مقرها في دولة قطر عزمي بشارة عبر أداتها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره عزمي بشارة نفسه بتحريك أدواتهم في ألمانيا وتحديداً الجهات التي تربطهما علاقة تعاقدية في ترجمة أعمال يورغن وهي دار «سوركامب» (Suhrkamp) الألمانية حيث أن هناك علاقة ممتدة منذ سنوات بين دار ترجمان التابعة لعزمي بشارة ودار سوركامب وسبق أن ترجمت العديد من أعمال هابرماس،  وكذلك تحريك مجلة دير شبيجل لمهاجمته حتى يظهر بموقف صاغر وفعلا هذا الذي تم ثم أتبعت دار النشر ذلك بتهديدها بفسخ عقدها مع يورغن.

نعم نجحت أهداف المركز العربي للأبحاث وعبر دار ترجمان التابعة له في الضغط على دار النشر والتي أعلن من خلالها يورغن هابرماس نفسه عن تراجعه عن الجائزة عبر مجلة دير شبيجل وفي ذلك إشارة واضحة إلى طبيعة العلاقة بين الناشر والمؤلف في ألمانيا وطبيعة العلاقة التي تحكمهما.

مجلة دير شبيجل التي اشتهرت بالعديد من الفضائح الكاذبة عدا عن تأليفها للقصص الملفقة هاجمت الفيلسوف يورغن هابرماس في مقال ناقد كتبه الصحفي ديتمار بيبر اتسم بالحدية وقام فيه بتضليل الفيلسوف بمعلومات مستقاة من منظمة هيومن رايس ووتش المعادية لدولة الإمارات والموالية لقطر وغيرها من المنظمات المعروف توجهها مسبقاً. ومن المعروف أن دير شبيجل هي إحدى أدوات الضغط في المشهد السياسي في الداخل الألماني، وهي لا شك مجلة لها تأثير كبير وواسع على المجتمع الألماني بكل نخبه، تأثير لا ينكره عاقل وهي مجلة مدعومة بقوة من أحزاب وأصحاب رؤوس أموال يرتبطون بمصالح داخلية وخارجية معقدة.. 

ولأن هابرماس يعلم جيداً مدى الضغط الذي من الممكن أن تشكله المجلة عليه في الداخل الألماني ووقوف اليسار ضده وإدراكه أن ذلك سيهدد تاريخه بشكل كامل وجد نفسه منصاعا لحملة الضغط التي بدأت المجلة بشنها عليه في عددها الذي سبق اعتذاره عن الجائزة وكانت السبب الرئيسي في ذلك.

ولأن  هابرماس كثيراً ما يقلق من أن يتم مهاجمته بسبب تاريخ انتمائه للنازية في مرحلة مبكرة من حياته وهي الورقة التي تستخدم على نحو واسع في أي خلاف فكري في ألمانيا وجد نفسه منصاعاً إلى معسكر التضليل خشية المخاطرة بتاريخه الفكري الكبير خاصة وهو في هذا العمر.

المفارقة أن هابرماس صاحب نظرية «المجتمع التواصلي» كان دائماً ضد التطرف والإرهاب ويدعو في كتاباته إلى التنوير ومن الذين يدعون إلى الحوار التواصلي ها هو في أواخر عمره وجد نفسه أمام فخ نصبه له اليسار فوقع في صراع وضغط كبير جعله ينصاع إلى فكرة القطيعة عبر دار نشر ومجلة ميولهما تتبع اليسار الألماني المنحاز والمتعاطف مع تيارات الاسلام السياسي كالإخوان وغيرهم.

والأهم من الحدث نفسه والأكيد أن موقف يورغن لا يؤثر في الجائزة ولا في تاريخها ولا في مصداقيتها فهي أعلى بكثير من ردود فعل غير مسؤولة وغير محكمة من المثقف القلق.. لكن وجب أن نعترف أننا لابد أن نتقن مخاطبة الغرب عبر منصاته الإعلامية المؤثرة المحايدة وواسعة الانتشار وأن نوجد روابط وعلاقات جيدة مع إعلام الآخر ونوجد مشروعاً إعلامياً يخاطب الأوروبيين ويوضح وجهات نظرنا ومواقفنا، خاصة والجميع يعلم أن الإعلام في الغرب في حالة زواج كاثوليكي مع الثقافة وكلاهما يؤثران في المواقف السياسية. 

 

 

محمد المبارك

ملف : صحافة استقصائية /