عاجل

أمن الطاقة ومواجهة التغير المناخي .. الإمارات نموذجاً

الظفرة

الدار – وام/

يعاني العالم أزمة طاقة لم يسبق لها مثيل، ففي كافة الأرجاء ارتفعت أسعار الوقود الأحفوري بشكل مذهل، ومعها ارتفعت أيضًا أسعار الطاقة الكهربائية، علاوة على التبعات الاقتصادية التي كان أبرزها الوصول إلى أعلى معدلات التضخم منذ عقود.

وفي موازاة ذلك، تتزايد حدة التغير المناخي، حيث تعاني بلدان عدة حرائق غابات مدمرة ودرجات حرارة هي الأعلى على الإطلاق، فقد شهدت أوروبا موجات حر شديدة امتدت من اليونان إلى المملكة المتحدة تجاوزت درجات الحرارة فيها الـ 40 درجة مئوية.

وفي المحصلة، أصبح أمن الطاقة وظاهرة التغير المناخي من أخطر التحديات في عصرنا ..والحل يجب أن يكون بعيد المدى ويتضمن خيارات استراتيجية توفر قدرًا كبيراً من أمن الطاقة وتُسرّع عملية خفض البصمة الكربونية لتفادي مواجهة العالم أزمة مماثلة مرة أخرى.

ويتطلب أمن الطاقة على المدى الطويل استثمارات عاجلة لإنتاج الكهرباء الصديقة للبيئة بما يتماشى مع النمو الاقتصادي للدول والاحتياجات البيئية الملحة، وقد أدركت العديد من الحكومات أن الطاقة النووية هي حجر الأساس لأمن الطاقة وتدعم الوصول إلى الحياد المناحي، بالتزامن مع القناعة بأن تشغيل المفاعلات النووية على المدى الطويل هو أقل تكلفة لإنتاج طاقة خالية من الانبعاثات الكربونية وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.

ويشهد معظم أنحاء العالم حالياً تغييراً ملحوظاً في الاتجاه الصحيح، مع تزايد حجم الاستثمارات في كل من الطاقة النووية والطاقة المتجددة ..فعلى سبيل المثال، وافقت الحكومة الصينية على بناء ستة مفاعلات نووية كجزء من خطة لخفض الانبعاثات الكربونية خلال العقد الحالي بأكثر من ضعف الانبعاثات، علماً بأن مصادر الطاقة الصديقة للبيئة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والنووية والطاقة المائية وفرت 16.6% من إجمالي احتياجات الصين من الطاقة العام الماضي، مقارنة مع 15.9% في العام السابق1.

وفي الولايات المتحدة الامريكية، أقر مجلس الشيوخ مؤخراً 369 مليار دولار أمريكي للاستثمار في الطاقة والمناخ، بهدف خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 40% بحلول عام 2030، حيث يتضمن ذلك توفير حوافز للمحطات النووية الحالية لمواصلة إنتاج كهرباء بدون انبعاثات حتى عام 2032.

ومن المرجح أن يفتح قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بتصنيف الطاقة النووية على أنها "خضراء" الباب لاستثمارات بمليارات اليوروات، إذ تضاعف فرنسا من قدرة الطاقة النووية لديها، بما في ذلك تصاميم الجيل التالي من المفاعلات، وتتجه الحكومة الهولندية لبناء محطتين جديدتين استجابة لنقص الطاقة، كما يناقش صانعو القرار في ألمانيا خيار تأجيل التخلي عن الطاقة النووية لضمان أمن الطاقة خاصة في الشتاء المقبل.

وفي المملكة المتحدة، أعطت الحكومة مؤخراً الضوء الأخضر لتطوير محطة "سوايزويل سي" الجديدة للطاقة النووية على ساحل سوفولك، والتي ستنتج 7% من احتياجات الكهرباء في المملكة المتحدة ولمدة 60 عامًا.

كذلك، تخطط اليابان لتشغيل تسعة مفاعلات نووية بالكامل هذا الشتاء، بينما تسعى لخفض الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2030 من خلال إعادة تشغيل ما مجموعه 30 مفاعلًا.

وبالتزامن مع ذلك، أعلنت كوريا الجنوبية مؤخرًا عن خططها لإنتاج ما يصل إلى 30% من احتياجاتها من الكهرباء على مدار ثماني سنوات، في وقت تبني دول مثل تركيا ومصر وبنغلاديش أولى محطات للطاقة النووية.

وبعد تراجع إنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة النووية في عام 2020 جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، عاد الإنتاج للانتعاش مجدداً حيث زاد بمقدار 100 تيراواط/ساعة ليصل إلى 2653 تيراواط ساعة في عام 2021 مع ملاحظة ان كل ميغاواط تنتجها محطات الطاقة النووية يسهم في مواجهة التغير المناخي.

ومنذ أكثر من عقد من الزمن، اتخذت دولة الإمارات العربية المتحدة قرارًا حكيما ومدروساً بعناية للاستثمار في الطاقة النووية، والتي باتت اليوم تقوم بدور محوري في تعزيز الاقتصاد المستدام وتحقيق أهداف استراتيجية الحياد المناخي 2050 ..وبينما يواجه العالم تحديات صعبة تتعلق بإمدادات الطاقة، تمكنت القيادة الرشيدة من ضمان أمن إمدادات الطاقة الخالية من الانبعاثات الكربونية على مدار الساعة بفضل استراتيجية الدولة طويلة الأجل واستثماراتها الكبيرة في الطاقة النووية وغيرها من المصادر الصديقة للبيئة.

وبدت منافع هذا النهج أكثر وضوحاً من خلال قيادة الجهود الرامية لمواجهة التغير المناخي في الدولة، ومنح الشركات المحلية ميزة تنافسية فريدة من خلال الاستفادة من شهادات الطاقة الخضراء لدعم الأعمال، والوصول إلى تريليونات الدولارات من التمويلات المتعلقة بالبيئة والمجمع والحوكمة.

كما مكن هذا النهج التقني المدروس دولة الإمارات من تسريع مسيرة الانتقال إلى مصادر الطاقة الصديقة للبيئة مع المحافظة على إمدادات الطاقة في الآن ذاته.

وأصبحت محطات براكة للطاقة النووية السلمية، أول مشروع عربي للطاقة النووية متعدد المحطات في مرحلة التشغيل، ركيزة أساسية للتنمية المستدامة في دولة الإمارات، حيث وفرت آلاف الوظائف المجزية وتواصل تحفيز نمو القطاعات الاقتصادية المحلية بعقود تصل قيمتها إلى 6.7 مليار دولار أمريكي تم منحها للشركات المحلية، بالإضافة إلى أهميتها البيئية اليوم وعلى مدى الستين عامًا المقبلة وما بعدها، من خلال تسريع خفض البصمة الكربونية لقطاع الطاقة وتوفير مصدر طاقة آمن وموثوق وصديق للبيئة كل دقيقة من اليوم.

محطتان من محطات براكة الأربع تنتجان الكهرباء حالياً على نحو تجاري، بينما شهدت المحطة الثالثة بداية التشغيل تمهيداً لربطها مع شبكة الكهرباء في الدولة تمهيداً للتشغيل التجاري خلال الشهور المقبلة، والتي ستضيف 1400 ميغاواط أخرى من الكهرباء الخالية من الانبعاثات الكربونية إلى شبكة الدولة عند تشغيلها التجاري، في وقت المحطة الرابعة إلى المراحل النهائية التي تسبق اكتمال الأعمال الإنشائية.

وفور تشغيل المحطات الأربع بالكامل ستقلل من استخدام الغاز الطبيعي في دولة الإمارات، مما يوفر أكثر من 400 مليار قدم مكعبة سنويًا، بقيمة تصل إلى 4 مليارات دولار بأسعار اليوم، وهو ما يدعم بشكل مباشر طموحات الدولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز، وان تصبح دولة مصدرة له بحلول عام 2030.

وبالنسبة لدولة الإمارات تعد محطات براكة هي البداية فقط، فهي تحفز الابتكار من خلال دعم البحث والتطوير، حيث يتم التركيز حالياً على ما يمكن تحقيقه في العقد المقبل عبر مجموعة من التقنيات النووية المتقدمة والوقود الصديق للبيئة مثل الهيدروجين الخالي من الانبعاثات الكربونية، إلى جانب تطوير شبكات الكهرباء الإقليمية المتقدمة، ونماذج المفاعلات المصغرة والمتوسطة وتطبيقات الطاقة النووية في قطاعات أوسع.

ويسلط المثال الإماراتي الضوء على القدرات الفريدة للطاقة النووية في تأمين الطاقة وضمان والاستدامة، ومع إدراك العالم الآن لأهمية تطوير مزيج متنوع من مصادر الطاقة الصديقة للبيئة فإنه من المرجح رؤية المزيد من الاستثمارات في تكنولوجيا الطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة.

ومن خلال اعتماد استراتيجيات طويلة الأجل قائمة على الحقائق والبيانات، ستكون البلدان في كافة أنحاء العالم قادرة على توفير الطاقة بشكل مستدام وتسريع خفض الانبعاثات الكربونية، وتجنب أزمات الطاقة والمعضلات الاقتصادية مثل تلك التي يواجهها المجتمع الدولي اليوم.