عاجل

المرأة البدويّة في كتابات الرحالة أوبنهايم 1911م

الظفرة

 

 
 
 

 

كتب الرحالة ماكس فون أوبنهايم عن حياة البدو في رحلاته التي استغرقت أربعين عاماً في العراق وسوريا وشمال الجزيرة العربية ووسطها والأردن والحجاز وفلسطين وسيناء وشط العرب، وتحدث عن المرأة البدوية التي شاهدها من خلال رحلاته. أوبنهايم هو رحالة وعالم آثار ودبلوماسي ألماني، ولد في كولونيا في 15 يوليو عام 1860م، استدعته وزارة الخارجية في ألمانيا ليكون رئيساً للديبلوماسية الألمانية في القاهرة، وبين عامي 1896 و1909م ترك أوبنهايم إقامته في الشرق الأوسط بعد أن عُين سفيراً لبلاده في الولايات المتحدة الأمريكية ثم في فرنسا، ثم في وزارة الخارجية الألمانية في برلين، ثم ترك أوبنهايم وظيفته الديبلوماسية ليتفرغ للحفريات والتنقيبات الأثرية في وادي تل حلف التي استمرت بين عامي 1911 و1913م، وبين عامي 1927 و1929م، وخلال إقامته في تل حلف تعرف على العشائر البدوية وأقام علاقات وطيدة مع شيوخها، توفي أوبنهايم في 17 نوفمبر عام 1946م، ومن كتبه المهمة التي تحدث فيها عن البدو كتابه (من البحر المتوسط إلى الخليج). تطرق أوبنهايم في كتابه إلى الحديث عن المرأة البدوية التي رآها في بلاد شمّر فتحدث عن ملابسها وحليها ودورها في القبيلة أو العائلة والأعمال التي تمارسها، فالمرأة البدوية لا شك أنها تختلف عن المرأة المدنية في نمط حياتها وطبيعة عيشها، وهذا ما سنلاحظه في كتابات أوبنهايم عنها. بدأ أوبنهايم بالحديث عن ملابس وحلي المرأة البدوية فقال: (ويتمثّل لباس المرأة أساساً في رداء واسع على شكل القميص لونه أزرق في الغالب ويُسمّى (ثوب جز) يُشد بحزام يلف عدّة مرّات حول الخصر، تلبس المرأة فوق ذلك في العادة مختلف الثياب بما فيها ملابس الرجال، وتلفُّ المرأة فوق رأسها بما يُسمّى (عصابة) تكون دائماً سوداء اللون ولماعة في كثير من الأحيان من أثر الأوساخ أو الدسم، وخلافاً لنساء المدن لا تلبس المرأة البدوية الخمار أبداً، ثمّ إنها تمشي في العادة حافية وقليلاً ما تلبس حذاء غليظاً أحمر أو أصفر اللون. ويتمثل حليها في أساور لليد وخلخال للرِجل تكون عادة من الزجاج الأزرق أو الذهب (سوار، أسوارة) عند نساء الأعيان، ويُسمّى حلي القدم (حجال) للصغيرة منها أو (خزام) أما نساء الشيوخ ذوي الثروات الطائلة فيحملن معلقات في الأنف تُسمّى (عران) تثبت في الجانب الأيمن أو الأيسر من الأنف). ذكر أوبنهايم في كتابة طريقة تزيّن المرأة البدوية من وضع الوشم في وجهها ويديها وقدميها، فقال: (الأمر الذي يجلب الانتباه عند النساء هو الوشم الذي يكون خاصة على الخد والجبين والذقن والشفاه، ويكون على اليدين والذراع والأقدام أيضاً، وهو في لون الأزرق أو ضارب إلى الأخضر، وبصفة عامة فإن عادة الوشم منتشرة في الشرق سواء عند المسلمين أو المسيحيين، رغم أن الجيل الجديد بدأ يخجل من هذا التشويه، ويكثر الوشم –الدقّ- عند نساء البدو على الذقن والجبين، فيُحاكي أحياناً خماراً يغطي كامل الوجه ولا يترك إلا العينين والأنف). أما عن دور المرأة في القضايا المهمة للعائلة أو القبيلة فيقول أوبنهايم: (يختلف دور المرأة البدوية تماماً عن دور المرأة في المدينة، إذ تستشار في غالب الأحيان حتّى في أهم القضايا رغم أنه لا يسمح لها بدخول منطقة الرجال في الخيمة وفقاً للعادات الشرقية القديمة، ولا يزال الدور الذي لعبته إحدى زوجات الشيخ صفوق والدة عبد الكريم وعبد الرزاق وفارس في تاريخ شمّر معروفاً إلى اليوم في صحراء بلاد ما بين النهرين، وكذلك والدة ذبلان التي استطاعت توجيه ابنها بطريقة حاسمة وقدّمت لي بذلك خدمة جليلة. ويشتد احترام الرجل البدوي للمرأة بصفة متميزة عندما تنجب هذه ولداً، ويتبيّن مفهوم الأمومة بوضوح عندما نعرف أن الزوج وجميع أفراد العائلة يتخلّون عن تسمية المرأة باسمها حالما تنجب ولداً وينادونها من ثم فصاعداً باستعمال اسم المولود الجديد فتصبح (أم فلان)، خاصة إذا كانت المرأة زوجة لأحد الشيوخ، وحتى العدو الذي يشن غزوة على القبيلة يواجه المرأة باحترام كبير، إذ يعتبر البدوي أن من واجبه أن يتخلى عن بعض الحيوانات المسلوبة لفائدة المرأة التي تلاحقه إذا كانت من القبيلة التي تعرّضت للغزو، وقد سبق أن شرحنا دور المرأة في موضوع طلب الحماية). يتعجب أوبنهايم من احترام الرجال في البادية للمرأة حتى من قِبل الأعداء الذين يرون الإساءة للمرأة من خوارم المروءة وعيباً كبيراً في حق القبيلة، ومع كل ذلك الاحترام والتقدير للمرأة يتحدث أوبنهايم عن المشاق المرمية على عاتقها في خدمة بيتها وزجها وأبنائها فيقول: (ولا يتضارب مع هذا الاحترام البالغ أن يكون على المرأة البدوية واجب القيام بجميع الأعمال المنزلية وما يتعلق بذلك من مهام مختلفة، ومن أشق الأعمال التي ينبغي على المرأة البدوية أن تقوم بها جلب الماء، والبحث عن الحطب الذي قد لا تعثر عليه في بعض الأحيان إلا في أماكن تبعد مسافة ساعات عن المنزل، كما ينبغي على المرأة أن تحلب الإبل والماعز، وأن تصنع الزبدة من اللبن، وتقوم المرأة بهذا العمل الأخير عادة في الصباح فتضع اللبن في قربة تعلقها على حاملة ذات ثلاث أرجل وتدفعها جيئةً وذهاباً في إيقاع متجانس حتى تتكوّن الزبدة، الأمر الذي يستغرق قرابة ساعتين من الزمن، ومن واجب المرأة إعداد الطعام، رغم أن الرجال يتولون هذه المهمة أحياناً، وتبدأ المرأة قبل مطلع الفجر بطحن الدقيق اللازم لوجبات اليوم، وهي مهمة تستغرق عدة ساعات بسبب قصور الرحى اليدوية عن أداء هذا العمل بسرعة أكبر، ولا تزال الرحى تحتفظ بشكلها الذي كانت عليه منذ عهد الآشوريين والمصريين القدماء. تتكون الرحى كما هي الحال في معظم أجزاء البلاد الإسلامية من قطعتين مستديرتين من الحجر الصلب، القطعة العليا مقببة قليلاً يتوسطها وتد يشكل المحور الذي تدور حوله الرحى، وتوضع الحبوب في ثقبة الوتد وفي الوقت نفسه تدار الرحى لطحن الحبوب بين قطعتي الحجر، ويكون الطحين المصنوع بهذه الطريقة خشناً بطبيعة الحال، أما القمح المستعمل في إحضار الطبق اليومي للبدو وهو البرغل فيدقّ في مهراس حجري أو معدني. وتشمل أعمال المرأة صناعة النسيج الذي تستمد منه قِطَع الخيمة والأقمشة الخشنة التي تصنع منها الأكياس والأغطية وفي بعض الأحيان القمصان أيضاً، وتنصب المرأة جهاز النسج (النول) الذي يكون في العادة بدائياً في وسط خدر النساء، ومن الغريب أن الرجال يقومون بعملية النسيج في كثير من الأحيان، ويغلب على الظن أن السبب في ذلك هو معالجة الضجر الذي قد يصيبهم أحياناً، ويتبيّن بوضوح حب الرجل لذاته أمام الجنس الضعيف أثناء الترحال، فإذا كان البدوي يملك ناقة فإنه يركبها في حين تسير النساء خلفه محمّلة بمختلف الأدوات المنزلية أو ببعض أبنائها فوق ظهرها). ويتحدث أبونهايم عن الزواج والطلاق عند البدو وغيرة الرجل البدوي على زوجته لأدنى سبب، وظاهرة التعدد وأنها غير مستغربة عند البدو، ويقول: (وللحصول على المرأة يتم الاتفاق على ثمن حسب ثروة الوالد والعريس، الأمر الذي يجعله يختلف اختلافاً كبيراً من حال إلى أخرى، إذ يدفع الشيوخ الكبار قطعاناً كاملة من الإبل وعدداً كبيراً من العبيد، في حين يقدّر الثمن في العادة ببضعة من الإبل، إلا أن عملية الزواج هذه لا تتم في البادية بالطريقة الجافة التي تتم بها في المدن، حيث لا ترى العروس في العادة عريسها إلا في ليلة الزفاف، ذلك أن البدو يراعون كل المراعاة ميول الفتاة التي لا تمنع من مخالطة خاطِب ودّها، ويروي البدو كثيراً من قصص الحب والحرمان التي يحاول فيها الرجل استمالة قلب محبوبته المُعرضة عنه بالقيام بأعمال بطولية متميزة، وبصفة عامة تلعب الأغنية العاطفية دوراً هاماً في أشعار العرب، وعلى وجه التخصيص حب البدوي الأصيل للبدوية الأصيلة). وأما عن الزواج والطلاق عند البدو فيقول أوبنهايم: (تتزوج الفتاة منذ نعومة أظفارها –في كثير من الأحيان بداية الثانية عشرة من عمرها- ورغم مواصلة النمو لاحقاً فإن الأنثى تبلغ في هذا السن نضجاً كاملاً، فحياة المرأة البدوية تشبه حياة نباتات البيوت المكيفة فتصبح أُمّاً في الثالثة عشرة من عمرها وعجوزاً في الثامنة عشرة، والسبب في هذه الشيخوخة المبكرة هو الزواج المبكّر والولادة الكثيرة، والحياة القاسية مع التغذية السيّئة وغير الكافية، هذه إضافة إلى رضاعة ا لأبناء التي تستغرق سنتين أو ثلاث سنوات على الأقل، وينبغي الملاحظة أن التشريع الإسلامي يقضي ألا يكون الفطام قبل انتهاء عامين من الولادة، لكن البدو لا يلتزمون بالتشريع الإسلامي فينبغي أن تعتبر أن هذه الظاهرة ترجع إلى عادة ضاربة في القِدَم رسّخها الإسلام لاحقاً، وتكاد المرأة البدوية تتقلص بانتظام مع تقدمها في السن، في حين تميل المرأة الحضرية إلى عكس ذلك تماماً بسبب قلّة الحركة بلا ريب. وبصفة عامة فإن ظاهرة الطلاق منتشرة عند البدو، إلا أن الطلاق لا يمثل بالنسبة للمرأة أي مساس بشرفها، حيث إنها تستطيع أن تتزوّج من جديد بعد انقضاء العدّة التي تستغرق أربعين يوماً حسب ما يشرعه القرآن. وإذا أرادت المرأة الطلاق فإنها تهرب إلى خيمة أبيها أو أقاربها، عندئذٍ لا يستطيع زوجها أن يُرجعها إلا بالحسنى، ولا يجوز له ذلك أبداً عن طريق الإكراه، غير أنه يستطيع في مثل هذه الحال أن يمتنع عن لفظ عبارة الطلاق ثلاثاً بحيث لا يمكن للمرأة أن تتزوج غيره، وإذا أصرّ الرجل على الرفض رغم محاولة استمالته عن طريق هدية قد تتمثل في عدد من الإبل، فإن ذلك يعني حكماً بالعزوبية الدائمة على المرأة، ويبدو أن مثل هذه الحالات تحدث بكثرة). ثم تحدث أوبنهايم عن ظاهرة كثرة الأطفال عند البدو التي تعود إلى تعدد الزوجات، وأن الولادة لا تؤثر على الأشغال اليومية للمرأة البدوية. هذه مقتطفات من مشاهدات هذا الرحالة الأجنبي للحياة البدوية في السنين الماضية التي تصور لنا كيف كانت المرأة البدوية ومكانتها في المجتمع البدوي وطريقة عيشها ومدى تحملها للظروف القاسية وما تقوم به من الأعمال الشاقة من أجل زوجها وأبنائها في بيئة بدائية تخلو من مظاهر التمدن والحضارة واختلاف نمط حياتها عن المرأة المدنية المتحضرة.